يم القاهرة

يم القاهرة

يم القاهرة

By : Ibrahim Mahfouz ابراهيم محفوظ

القاهرة مثل اليَم. لا يمكن أن تدخلها دون أن تلتقطك أمواج الصخب الهائجة. هل تخيل أحد عند وضع أساس هذه المدينة في القرن العاشر أنها ستتعملق وتخرج عن السيطرة إلى هذا الحد؟ وهل تخيل أحد أنها ستأوي ما يزيد عن عشرين مليون شخص بين أضلاعها؟ القاهرة ليست أكبر مدن العالم بالطبع، ولا تماثل بعض مدن الشرق الأقصى تعددًا ومساحةً، لكن هذا لا ينفي أنها قنبلة موقوتة من المكعبات الخرسانية والطرقات الأسفلتية التي يطغى عليها اللون الرمادي القاتم متفوقًا على كل المحاولات الباهتة لطلاء هذه المدينة المكتوب لألوانها الفناء أمام الغبار المتوغل بأغوار المجتمع حتى رئاته. ولا يمر يوم دون أن يستيقظ التراب ولو قليلًا ليذكّر هذه المدينة أن لولا النيل لما كُتب لها البقاء، ففي الصحراء الزوال هو القاعدة.

بين الغبار والعوادم والمكعبات الخرسانية ولون الموت الرمادي ليس من العجيب حقًا أن نشهد موجة من روايات الديستوبيا ورؤى الانحلال العمراني والمجتمعي خارجة من القاهرة التي تقهر وتجرش كل ما يأتي في طريقها من روح ونبات وجماد لتنال اسمها بجدارة واستحقاق وتثبت قول ابن هذه المدينة، الشاعر فؤاد حداد، الذي أتى قوله في سياقٍ آخر لكنه مناسب هنا:
سبحانه الذي أسمانا كان قاري الكتب بأمانه

في السنوات الأخيرة فقط كتب الروائي محمد ربيع «عطارد» ذات التصور المستقبلي الوحشي واللا إنساني للقاهرة، وكتبت بسمة عبد العزيز رواية «الطابور» التي تدور أحداثها في مدينة خيالية يقف سكانها في طابور لقضاء مصلحة ضرورية فيلتهم الطابور حيواتهم، وكتب أحمد ناجي «استخدام الحياة» التي تبدو فيها القاهرة إحدى الشخصيات الرئيسية للرواية. ولم تظهر هذه الأعمال الأدبية معًا بسبب صدفة القدر، بل أتت لتفصح عن جيل كامل شاهد بعينه تحول المدينة الوحشي، وإن صُدم هذا الجيل بما آل إليه حال المدينة فهذا الواقع لم يأت دون إنذار لأجيال أخرى سمعت عن مشاريع الإستيعاب العمراني في الحقبة الناصرية والتي أدت إلى ظهور مدينة نصر في شرق القاهرة والتي ابتلعتها المدينة في غضون سنوات ليجد الهامش نفسه في المركز. ربما عاشت الأجيال السابقة على أمل نجاح محاولات التخطيط العمراني لكن هذا الجيل عاصر فشل هذه المشروعات التي أوضحت أن تعملق القاهرة قادم لا محالة. ولهذا فعندما أعلن في السنوات السابقة عن نوايا إنشاء عاصمة إدارية جديدة تبعد عن القاهرة بعشرات الكيلومترات لم يصدق الكثيرون أن هذا سيحل شيئًا.

تتضخم القاهرة يوميًا وبسرعة عجيبة لتلتهم ذرة بعد أخرى من إنسانية سكانها الذين اعتادوا أن يجلسوا في سيارتهم على مدار ساعات وسط زحام السيارات المتكدسة على كوبري ما ليظلوا عالقين بالطابق الثاني للمدينة بلا حول ولا قوة. فيُقسمون أن يتفادوا كل ما قد يعرضهم إلى هذا الموقف من ارتباطات إجتماعية ومهنية وعاطفية مجددًا حتى يتحولون إلى كائنات تتسلطن المدينة عليهم وتحركهم كما يروق لها. وهذا رغم أن المدينة أنشئت لتحرر الناس من سلطان الطبيعة وتجلب عليهم الرخاء، فما لبثت القاهرة حتى خلقت طبيعة ثانية لا تقل قسوة عن ما سبق.

لا يخفى هذا الواقع عن كل مَن خطى خطوة واحدة في القاهرة. ورغم ذلك، فثمّة سوق عقارات ضخم لا يستحيي من تشييد البنايات ومط قوام المدينة المتهدل إلى أبعد حد. فكل من يمتلك قرشًا زائدًا يهرول لاستثماره في مساحة ما آملًا أن يحصد العائد بعيد المنال، حتى أصبحت المدينة تمتد شرقًا نحو السويس وشمالًا نحو الدلتا وجنوبًا نحو الفيوم وغربًا صوب مزارع الجيزة. لتنسف أراضٍ صحراويةٍ وتُذبل مساحة زراعية مفسحة مجالًا للمزيد من القبح والأسمنت الذي قد يأتي على هيئة بناية من سبع طوابق أو ڤيلا صغيرة من طابقين، ليشتريها أحد وتُترك للأشباح والغبار عدة سنوات حتى تتحول المنطقة إلى حي سكني راقٍ يقدر فيه العقار بثمن لا بأس عليه، فيباع العقار ويراهن المال على منطقة جديدة ستهرول المدينة صوبها بعد عدة سنوات. قد تنجح هذه المقامرة أكثر من مرة لكنها أحيانًا تفشل فتظهر شوارع ببنايات نصف مكتملة أو أبراج شاهقة مكتملة لن تتحول ثقوب واجهتها إلى نوافذ أبدًا ولن تنال أرواحها الحياة، فتتشابه هذه الشوارع حسب حالتها بمدن مزقتها الحروب أو بمحاولات بائسة لإعادة تشييد حضارة أثرية سكنت فياف مجردة قبل آلاف الأعوام، في الحالتين تتهافت للأذهان خواطر عدة أمام هذا المنظر ربما أبرزها هو الخلل الواضح بين العائلات المكدسة في غرف ضيقة والبيوت الخاوية إلا من التراب المتراكم ليزكم الأنوف.

***
كما لا يمكن للقاهرة أن تكون قاهرة دون ترابها، فالرأسمالية لا تحيا دون رأس المال الذي يسري في شرايين هذا الهيكل العالمي المعقد. مثل الجسد تمامًا فإن انقطع رأس المال فجأة أو تعطل مساره تظهر الأزمات فورًا. يُعرِف المفكر البريطاني ديڤيد هارڤي رأس المال في كتابه «لغز رأس المال وأزمات الرأسمالية» (الصادر عام٢٠١٠) على أنه عملية تتضمن إرسال المال للبحث عن مال أكثر (ص. ٤٠). وهو تعريف يبرع في كشف شخصية رأس المال المتجددة وفلسفته في مجتمعاتنا اليوم، تحديدًا لأن رأس المال تحت هذا الوصف يخوض دورة فكلما توسعت الدورة وسُرعت كلما زاد الربح وأتيحت الفرصة لدورة جديدة. هذا المنطق هو المنطق نفسه لسائق الميكروباص في شوارع القاهرة الذي يحاول أن ينجز أكبر عدد جولات في أقل وقت ممكن، مع الحرص على اختيار رحلة ذات حجم مناسب تدير عليه الربح المطلوب.

ويضيف هارڤي إن لدورات رأس المال بُعداً مكانياً هاماً يشكل علاقة ملتبسة بين رأس المال والجغرافية والعمران. فمن جانب يتجذر رأس المال في الجغرافيا والمساحة بأشكال مختلفة مثل البنايات والمصانع والمتاجر والمكاتب، لكن على الجانب الآخر ثمّة محاولات حثيثة ومستمرة لرأس المال بالتحرر من قيود الجغرافيا في زمن العولمة الذي يجعل من العالم قرية صغيرة. بين هذا وذاك يتحول رأس المال لعملية البحث عن الجغرافيا التي تدر أعلى ربح، فينفجر النمو في مساحات ويهجم الركود القاتل على مساحات أخرى، حتى تتغيير نسب الربح ويتحرك رأس المال مجددًا، لتتنج هذه الفوضى النيوليبرالية تطوراً ونمواً جغرافياً متفاوتاً وغير متزن عالميًا على مرأى الجميع.

ويستدرك هارڤي إن تحرك رأس المال من جغرافيا إلى أخرى بحثًا عن الربح يتضمن الدخول إلى مساحات جديدة لم تكن جزءًا من هيكل الرأسمالية المتوحش، فتدشَّن مشاريع التوسع العمراني والصناعي لتدور دورة رأس المال مجددًا.

***
لا يمكن فهم شبكة القاهرة الفوضوية والمكدسة التي يفوح منها خليط من التراب وعوادم السيارات دون وضعها في السياق الذي يحدده رأس المال للجغرافيا والجغرافيا لرأس المال. من هذا المنظور يتحول العقار إلى مكعب أسمنتي له قيمة مالية وليس مكاناً يسكنه من يحتاج إلى مأوى. وتتحول المساحات الصحراوية والزراعية إلى فرص جديدة تحتاجها الرأسمالية كي تعيش، وتحتاجها القاهرة كي يفضلها رأس المال على مساحات أخرى وتستمر العجلة في الدوران رغم الأزمات؛ وتتحول المناطق الشعبية والعشوائيات إلى أراض غير مستغلة رغم مَن يسكنها.

بهذا الشكل تمتد أرجل هيكل رأس المال لتحول كل ما يأتي في طريقها من أرض وأشخاص إلى دوراتها، فيختفي بائع الدندرمة عن قاهرة نجيب محفوظ ويتوقف بائع الفول عن المرور أمام بيتنا وينقطع بائع الحليب عن دق بابنا في الصباح، وتظهر المولات وسلاسل المطاعم والعلامات التجارية الموضوعة على زجاجات الماء من أجل دورات رأس المال العنيفة والمستثمر الذي يجب أن نجذبه ونغويه لتعيش القاهرة المتهالكة وتتعمر وتتوسع، حتى تبتلع المدينة سكانها كما يبتلع اليم صياديه وتتحقق إحدى روايات الديستوبيا.

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • أيام بلا تاريخ: الجزء الثاني

      أيام بلا تاريخ: الجزء الثاني
       رغم طابع الزمن الحلزوني الذي يبدد أحيانًا الحدود الفاصلة بين الماضي والحاضر في عالم شُيد على النظم الحدودية، يمر الزمن ووقته في عقولنا وعلومنا على نحوٍ مستقيم لا يعرف الإلتواء. في أوقاتٍ يسير الزمن
    • أيام بلا تاريخ

      أيام بلا تاريخ
       "علينا أن أن نتحمل أفكارنا طوال الليل، حتىتقف البديهية النضرة في البرد بلا حراك" – والس ستيفنز****كان "الطويل" جالسًا في سيارة الترحيلات المكدسة بالرفاق وهو يدخن في صمت. على
    • گيمر وبرتقال الوطن

      گيمر وبرتقال الوطن
      تحت وطأة ما يسميه البعض بالحداثة وعملية التحدث التي تحمل بداخلها كل معاني الإستعمارية الرأسمالية نشهد اندثار كل ما لا يناسب قوالب هذه العملية. مع توغل رأس المال في واقع الكثيرين وتسلله في ثنايا الحيا

استراحة مخيّم: روايات من مخيم الرشيدية والبحر

لا نعرف الكثير حول سبب تواجد المخيمات الفلسطينية حيث هي اليوم. كما لا نعرف المسارات التي اتخذها سكانها من فلسطين إلى تلك المخيمات. كثيراً ما نظن أنّ اللاجئين، نقلوا عند وصولهم، مباشرة إلى الخيام التي أصبحت في وقت لاحق "مخيمات." انطلاقاً من أفكار حول اللجوء وسُبل كتابة تاريخ مغاير للمخيمات الفلسطينية في لبنان، عملنا في مجموعة الدكتافون على مشروع "استراحة مخيم" الذي تم تطويره بتكليف من مقر دار النمر للفن والثقافة في بيروت خلال فعاليات مهرجان قلنديا الدولي لعام 2016.

عملُنا في مجموعة الدكتافون هو مزيج من الفن الحيّ مع البحث المتعدد الحقول. يتشابك البحث والفن الحيّ منذ الفكرة الأولية للمشروع ثم أثناء تطويرها ولاحقاً في مشاركتها مع الناس. من هذا المنطلق وعلى غرار العديد من المشاريع الفنية التي تنجز مع مجتمعات محلية بدلاً من المشاغل الفنية، تكون منهجية المشروع بأهمية نتيجته.

اهتماماتنا الشخصية والفنية هي أن نبحث بأماكن مهمشة خارج مركزية العاصمة وأن نحكي عن علاقتنا وحقنا بالوصول للبحر والاستمتاع به كمكان عام مفتوح للجميع. في صيف ٢٠١٢ قدمنا مشروعاً كان عنوانه "هذا البحر لي" دعى الجمهور إلى رحلة بقارب صيد من ميناء عين المريسة الى دالية الروشة المتنازع عليها. كان المشروع عبارة عن رحلة على قارب يتوقف عند كل موقع على الشاطىء ليحكي قصته والقوانين التي ترعاه والتعديّات عليه وكيفية استعماله من قبل الناس. في عام ٢٠١٥، قدمنا مشروعاً بالاشتراك مع مجموعة شبابية وناشطة من مدينة صيدا تحت عنوان "مشي تَ دلّيك" حول علاقة سكان صيدا بالمساحات المشتركة والتغيّرات التي تطال مدينتهم من خلال التخطيطات والمشاريع التي تترك تغييراً جذرياً بالأحياء وبشكل خاص على شاطئ صيدا.

يستكمل "استراحة مخيم" اهتمامنا بالبحث في علاقة الأفراد والمجموعات بالبحر وبحيّزهم الطبيعي. المشروع هو عبارة عن تركيب فيديو قمنا بتطويره مع أربعة من سكان مخيم الرشيدية. صوّرنا مساراتهم اليومية من منازلهم باتجاه البحر حيث قادنا كل مُشارك ومُشاركة نحو المشهد الأخير ليختار مكان تواجده مع خلفية البحر. نسج هؤلاء، على طول الطريق، قصصاً عن تاريخ الأرض ووصولهم إلى المخيم وصراعهم للعمار والحياة اليومية في مخيم مفصول عن المدينة تحدّه حقول زراعية والبحر.

يُعرض هذا العمل في غرفة صغيرة حيث يجد الجمهور نفسه وسط أربع قصص تبرز كل واحدة منها على حائط في الغرفة. يبدأ التصوير في منزل كل واحد من المشاركين ثم ينتقل معهم في أزقة وشوارع المخيم حتى الوصول إلى البحر.

أملى تواجُدنا في مخيم الرشيدية في تلك الأيام المحددة نتيجة المشروع. اللقاءات التي أجريناها مع أناس مختلفين كنا قد التقيناهم عن قصد أو عن طريق الصدفة كشفت لنا فضاءات المخيم من خلال الحياة اليومية هناك. كزوار للمخيم، كان ملفتاً لنا التناقض بين انفتاح المكان على البحر والحقول الزراعية المجاورة مع مدخل المخيم الذي هو كناية عن نقطة تفتيش للجيش ونقاط المراقبة التي تضم حتى شاطئ البحر. وضّح هذا التناقض في المكان القمع الملثم والحرية الوهمية التي تعطى لسكان المخيم.

تاريخ الأرض والوصول إلى المخيم

"بحصار المخيمات، لولا البساتين كانت الناس ماتت من الجوع." هكذا يحكي سكان مخيم الرشيدية الذي يقع على الساحل اللبناني جنوب مدينة صور. مخيمٌ محاط بأراضٍ   زراعية وبساتين حمضيات، جميعها تُروى من قنوات مياه تاريخية مصدرها منطقة رأس العين.

يحتضن الموقع برك رأس العين لمياه الشفة، اثنان منها في تلة الرشيدية والتي تعد أحد أقدم العيون على الساحل اللبناني.1 كما تشكل منطقة رأس العين وتلة الرشيدية جزءاً أساسياً من "صور القديمة" التي امتدت على الساحل. سَكنها أهل صور قديماً لكثرة المياه فيها وإمكانية زراعتها، فيما تركوا صور التي نعرفها اليوم مكاناً للحكم والعبادة. يُروى أنّ اسكندر المقدوني هدم صور المبنية على تلة الرشيدية لأن الكاهن رفض إدخاله إلى المعبد. ما تبقى من صور القديمة هي قرية الرشيدية.2

خلال سنوات الانتداب الفرنسي، وهبت السلطات الفرنسية أراضٍ كثيرة في مدينة صور للوقف الكاثوليكي.3 من ضمن هذه الأراضي الموهوبة كانت أراضٍ  على تلة الرشيدية التي كانت تحوي كنيستين. هنا أنشأت السلطات الفرنسية في العام 1936 مخيماً لمئات اللاجئين الأرمن الفارين من المجازر في منطقة كيليكيا. وصول اللاجئين الأرمن تبعه بعد حوالي العقد من الزمن وصول اللاجئين الفلسطينيين. روَت لنا امرأة مسنّة من الرشيدية، أنها وصلت هي وعائلتها في البداية من شمال فلسطين إلى بلدة مارون الراس الجنوبية: "من مارون الراس رحنا على بنت جبيل ومن هونيك على البص بمدينة صور. لقانا القائم مقام. كان في قطار يوصل لهون. نطرناه. ركبنا فيه صوب سوريا. وصلنا على حما، لقينا سيارات أخدتنا على الجامع. كان في كتير فلسطينية، قعدنا ٧ أيام. جابوا سيارات وسألوا كل واحد شو بيشتغل وأخدوه على بلد يشتغل فيها. أبوي قال بده يروح على الشام. قالوله ممنوع. رحنا على حوران. رجعنا على الشام وبعدين حملنا حالنا ورجعنا على لبنان وقعدنا ببلدة تبنين لأن كان عنا قرايب فيها".

ولكن في العام 1950 أي بعد بضع سنوات من سكنهم في القرى الجنوبية - اتخذت السلطات اللبنانية قراراً بإجلاء الفلسطينيين القاطنين في القرى الجنوبية (تبنين والمنصوري والقليلة وبنت جبيل وغيرها) ونقلهم إلى مخيمات، من ضمنها مخيم أنشأته في محيط المخيم الأرمني القديم. كان عبارة عن شوادر. قام الأهالي بتثبيت الشوادر عبر بناء حيطان من طين وتراب. كانت الحمّامات مشتركة؛ حمام لكل ثمانية بيوت على بعد خمسين متراً من البيوت.

بعد مرور حوالي العقد على مجيىء الفلسطينيين، بدأ اللاجئون الأرمن بالرحيل وأخذ الفلسطينيون مكانهم". كان هناك 311 بيتاً أرمنياً، بقي منها 200 بيت. وهذا ما يُسمى اليوم بالمخيم القديم.

أما المخيم الجديد، فقامت ببنائه منظمة الأونروا في العام 1963 لإيواء اللاجئين الفلسطينيين الذين كانوا يسكنون في "ثكنة غورو" في بعلبك. قررت الحكومة اللبنانية إخلاء الثكنة، وتم بناء "المخيم الجديد" في الرشيدية على مقربة من "المخيم القديم". كان عبارة عن شبكة طرقات عمودية وأفقية، فيها وحدات سكنية، كل منها ذات مساحة 99 متر مربع تحتوي على ثلاث غرف وحمام وساحة. انتقل إليه سكان ثكنة غورو، بالإضافة إلى البعض الذي ترك المخيم القديم للسكن هنا. لكن الغرف كانت صغيرة والسقف منخفض جداً. مع الوقت، أغلبية العائلات هدمت هذه البيوت وعمرت بديلاً عنها.


على مر العقود، عمل جزء كبير من سكان الرشيدية في البساتين المحيطة، إمّا في الضمان الموسمي أو كعمال مياومين، واستفادوا بذلك من كثرة المياه في المنطقة. يشرح أبو حسين، أحد الأشخاص الذين عملنا معهم في هذا المشروع:
"لو ما عنّا ميّ بالمخيم ما كنا عشنا. عنا ميّ كتير ومن زمان: قنايا راس العين ونهرين وبرك. من البرك منضخ ميّ للخزان ومن الخزان للشبكة وبعدين للبيوت والأراضي الزراعية."

بعد العام 1969 وإعطاء الشرعية لوجود منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، عمل سكان الرشيدية في أراضي الجفتلك المحيطة بالمخيم من دون دفع رسوم الضمان. كل مزارع اختار أرضاً وزرعها وباتت عرفياً تعتبر ملكاً له. فأراضي الجفتلك ذات ملكية عامة، منها أملاك لوزارة المالية ومنها للتربية وأغلبيتها ملك للجمهورية اللبنانية. لكن زراعة أراضي الجفتلك اقتصرت على الحشائش: علت، فاصوليا، خس، بقدونس، كزبرة، فجل، وغيرها. وذلك، بسبب عدم ملكيتهم لهذه الأراضي، مُنعوا من زراعة الأشجار المثمرة فيها. فبحسب قانون الملكية اللبناني، من يزرع شجرة يملكها.

اليوم، تخضع هذه الأراضي الزراعية التي يتميّز بها المخيم لتحوّلات كثيرة بسبب معركة العمار بين أهالي المخيم والسلطات اللبنانية.

\"\"

معركة العمار

بسبب قربه إلى فلسطين وموقعه على الشاطىء، لطالما حمل البحر فدائيين من الرشيدية في قوارب إلى إسرائيل للقيام بعمليات عسكرية، فتعرّض المخيم لهجمات إسرائيلية عديدة، أبرزها في 1973، 1978، 1982 حيث تم تدمير 600 ملجأً ونزوح خمسة آلاف نسمة.4

بعد العام 1985، قامت الدولة اللبنانية بالسيطرة الكاملة على مداخل المخيم واقتصر دخول السكان على مدخل واحد يحرسه الجيش اللبناني. هذا الحصار يعيشه المخيم حتى اليوم، ويأخذ أشكالاً مختلفة. مُقيّد ضمن حدود واضحة والبحر، ليس بإمكان المخيم أن يتوّسع عمرانياً، إنما يحصل ذلك على حساب المساحات المشتركة، مثل ملعب كرة القدم وشاطىء البحر، وعلى حساب الأراضي الزراعية.

"أول ملعب فوتبول بالمخيم كان هون، بقلب المخيم. كان حلو لأن كنا نقعد على البرندات ونتفرج على الماتش ونشجعهم. بعدين صار المخيم يضيق علينا، وبلشت هالناس كل شوي تعمر على أرض الملعب. هلق بطل موجود. صار فيه بدل منه ثلاثة، بس كل واحد عملته منظمة. القديم ما كان محسوب على حدا. أهل المخيم هنني يللي عملوه." هكذا روَت منى، التي تسكن بالقرب من حيث كان ملعب كرة القدم الأول في المخيم. حدثتنا أيضاً عن بدء عمليات البناء في هذه الأيام على الأراضي الزراعية. "الطلب على البيوت عم يزيد، خصوصاً مع مجيء اللاجئين من سوريا. صار مربح أكثر الواحد يعمر ويأجر من أنه يزرع. شوفي حارة الكواكنة مثلاً، كانت زراعية واتعمرت. صاحب الأرض سوّرها من شي عشر سنين (وضع يد يعني) وصار يزرعها. من خمس سنين صار يعمّر فيها. يعمل غرف ويأجر للمهجرين السوريين. هو بالأساس عمّر الغرفتين استراحة. بس ما مشي حاله. أجرهم بعدين سكن. وكمان صار يبيع شقف أرض والناس تعمر." منى وغيرها كثر أيضاً حكوا عن شاطىء الرشيدية.

تعرّض شاطىء صور ومن ضمنه شاطئ الرشيدية الى عملية شفط الرمول خلال الحرب الأهلية. عرّض هذا البيوت المواجهة للبحر الى خطر الهدم والتلف بسبب الأمواج. يواجه سكان المخيم هذه المشكلة من خلال بناء جدار بين البيوت والواجهة البحرية باستخدام الردميات الناتجة عن عمليات حفر الطرقات. بالرغم من قباحتها، فهي حل مناسب لأنها لا تكلّفهم شيئاً سوى نقلها. سكان الواجهة الأمامية في معظم الأحيان هم الأفقر في المخيم. اختاروا السكن على الشاطىء لتدنّي سعر الأراضي فيه. روى لنا صاحب استراحة على البحر: "أهلي دوّروا على الرخص مش على البحر." كما شرح أن جزء كبير من بحر الرشيدية الآن عبارة عن ردميات مكدسة على طول الشاطىء، بالإضافة إلى نفايات يتم إلقاؤها في قنوات المياه التي تصب في البحر، ليعود الموج ويلقيها على الشاطىء. الأونروا لا تقوم بتنظيف الشاطىء. يقتصر عملها على تجميع النفايات من الحاويات الموّزعة في الأحياء، لترميها لاحقاً في المكب المتواجد على أطراف المخيم. يتم نقلها فيما بعد الى مكب في بلدة قانا، وذلك بعد أن تمّ إغلاق مكب راس العين الغير صحي والموازي للبحر في العام 2015.

معركة العمار أيضاً تعقدت بقرار الدولة اللبنانية منع إدخال مواد البناء إلى المخيم من دون الحصول على تصريح، مما يأخذ وقتاً طويلاً وفي معظم الأحيان لا يُمنح. يصف سكان المخيم. هذا المنع على أنّه تواطؤ بين المنظمات الفلسطينية وبين السلطات اللبنانية التي تعطي تراخيصاً فقط للنافذين في المخيم الذين بدورهم يبيعونه للسكان بأسعار مضاعفة. معركة العمار تطال مخيمات الجنوب كلها. آخرها كان خبر إصابة شخصين أحدهما شرطي في بلدية صور والآخر فلسطيني من سكان مخيم البصّ، على خلفية محاولة إدخال مواد بناء إلى المخيم من دون تصريح.

هذه الحكايات بالإضافة للكثير غيرها كان قد عبّر عنها المشاركون الأربعة في مشروع "استراحة مخيم." أردنا العمل على مادة بحثية تساهم بصياغة خطاب مختلف عن المخيمات الفلسطينية في لبنان.

المشاريع المجتمعية

المشاريع المجتمعية ليست ببسيطة. السياسات الأخلاقية للمشروع تكون من خلالها على المحك. كيف يمكننا أن نخلق فناً مع المجتمع المحلي وليس فقط عنه؟ كيف يمكننا تمثيل الناس بالطريقة التي هم يريدون أن يتم تمثيلهم بها مع الحفاظ على فكرة العمل الفني؟ هذه الأسئلة تصبح ملحة أكثر حين نتعامل مع مجتمع مهمش أرادت دولتنا أن تعطينا امتيازات عليه.

العمل مع مجتمع محليّ يعني أن نسمح للقاءات أن تحدث وللعمل الفني أن يتغيّر وللجدول الزمنيّ أن يتم تحويله وللقصص أن تُكتشف من خلال اكتشافنا للمكان. على سبيل المثال، كانت فكرتنا الفنية أن ندعو كل شخصية مشاركة في المشروع إلى أن تصمم المشهد الأخير في الفيديو وتختار خلفيتها مع البحر. في الواقع، لم يتجاوب أحد مع هذا الاقتراح لأسباب عديدة كإرادة الابتعاد عن النظرة الرومانسية للبحر والقرب الجغرافي من فلسطين.

العمل مع مجتمع محلي يعني أيضاً أن نبحث عن الأسباب الشخصية والسياسية وراء تقاسم هذه الحكايا معنا واحترام هذه الأسباب مع إبقاء مسافة نقدية في تعاطينا معها. تقول إحدى الشخصيات المشاركة إنّ غرضها من مشاركة الناس لقصة وصولها إلى المخيم وللعنف الذي كانت عائلتها ضحيته خلال حرب المخيمات مع أحزاب لبنانية أنّ على الفلسطينيين أن يروا قصصهم كي لا تموت معهم.

مثل العديد من مشاريع مجموعة الدكتافون، وجدنا أنّ سرد تاريخ المساحات هو مفتاح لفهم الحالة الراهنة للأمور. روايات الفلسطينيين الذين هُجروا إلى لبنان في عام 1948 تكشف عن وجود نقص في التنظيم من قبل الدولة اللبنانية التي نشهده حالياً مع اللاجئين السوريين الذين يصلون بأعداد كبيرة منذ عام 2011. تروي أم خليل وصولها إلى سوريا بعد أن توقفت مع عائلتها في لبنان وبالتالي أجبرتهم السلطات السورية العودة إلى لبنان إذ كان هو أول ميناء لوصولهم. اليوم تُعرف هذه الممارسة باسم «قانون دابلن» الذي ينص على ترحيل اللاجئين إلى أول ميناء حيث تم تسجيلهم في أوروبا بغض النظر عمّا يفضلون أو يخططون له.

نذكر من خلال هذا المشروع أن تجاهل آلام وخيارات الناس والعنصرية المتعمدة وشيطنة اللاجئين في القرى والمدن اللبنانية، والدعوات لتجميعهم في مخيمات يتم السيطرة عليها بسهولة وبالتالي الهجوم عليها بسهولة، ليس بشيء جديد. في حين أن العالم كله مشغول بمناقشة ما يسمونه أزمة اللاجئين، نأمل أن نتذكر أهمية الاستماع إلى أولئك الذين هم بأنفسهم في قلب هذه الأزمة. كما ونأمل أن نتذكر أن ترك الناس في طي النسيان مع موارد وحقوق قليلة ليس حلاً بل عدم وجود
أي حل.

 

لقراءة هذا المقال باللغة الانجليزية، اضغط/ي هنا


بحث وإدارة فنيّة وكتابة المقال: تانيا الخوري وعبير سقسوق
كاميرا: كرم غصين
مونتاج: علي بيضون
تصميم صوت: مجد الحموي
المشاركون: حسين الزيني وخديجة المصري وحسن عجاوي وزهراء فاعور

مصادر البحث
1 من تقرير عن برك رأس العين من إعداد "الجنوبيون الخضر"
2 جميع المعلومات عن صور القديمة استندت الى مقابلة قمنا بها مع المهندس والباحث نصر شرف الدين في حزيران 2016
3 من مقابلة قمنا بها مع المهندس والباحث نصر شرف الدين في حزيران 2016
4 Rebacco Roberts, Palestinians in Lebanon: Refugees Living with Long-Term Displacement, Journal of Refugee Studies (2011)24 (2): 416-417

- مقابلات مع سكان من مخيم الرشيدية
- صوَر جويّة وخرائط
- إفادات عقارية من الدوائر العقارية في مدينة صور
- مقابلات مع المهندس نصر شرف الدين والمهندس والباحث اسماعيل الشيخ حسن والمهندسة والباحثة لينا أبو رسلان
- تقرير الأونروا عن مخيم الرشيدية